#قصة_قصيرة
جنيهان معدنيان
استيقظ فى الثامنة صباحا على صوت قلبه الدامى، تذكرها ظل عدة دقائق يردد هذا السؤال «لماذا يا عزيزتى ؟!» ..
ارتدى ملابسه على عجل، ذهب للعمل، قضى ساعة مرت وكأنها أسبوعاً من شدة الإضطراب، استأذن فى الانصراف لظروف خاصة، اتجه لمحطة المترو، استقل المترو باتجاه محل عملها، وصل وسط البلد الساعة الحادية عشر صباحاً، قطع شارع «محمود بسيونى» باتجاه ميدان طلعت حرب، ظل طوال الطريق يسأل نفسه كيف ستقابل جرأته هذه ؟!، وصل إلى طلعت حرب دخل شارع «قصر النيل»، جلس على مقهى احتل طوار الشارع أمام الشركة التى تعمل بها بانتظار موعد خروجها، مرت الدقائق بطيئة جداً، أتت الساعة الثانية ظهراً ولا جديد، توتر بشدة، قرر الاتصال بصديقته التى حكى لها عن معاناته :
- ألو، كيف حالك يا أمل ؟
- أنا بخير، أنت كيف حالك يا صديقى ؟
- أنا حتى الآن بخير، لقد قررت أن أتحدث معها يا أمل، أنا أجلس الآن على الطوار المواجه للشركة التى تعمل بها، لابد أن أصل لها، مرت ثلاث ساعات وأنا جالس هنا أستقبل لهيب الشمس وأشعتها الحارقة، وسأظل هكذا حتى أستطيع الفوز بلحظات قليلة من رؤيتها والحديث معها.
- أنت فارس نبيل يا صديقى فى حبك، كم هى محظوظة بك !
- إنه اليوم الثانى لى فى إستقبال أشعة الشمس الحارقة يا صديقتى، قضيت أول الأمس هنا دون جدوى، وعدت المنزل محبطاً، ارتميت على سريرى والصداع يفتك برأسى من طول الجلوس تحت لهيب الشمس فى هذا اليوم.
- سأتصل بك بعد نصف ساعة لأعرف ماذا فعلت ؟
- لا أعرف كيف أشكرك أيتها الصديقة الطيبة !
- لا تقُل ذلك، سأتصل بك بعد نصف ساعة كما اتفقنا، إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
مرت نصف ساعة، رن هاتفه المحمول :
- ألو، هل من جديد يا صديقى ؟
- لا للأسف، أخشى أن يمر هذا اليوم كسابقه دون جدوى.
- أعطنى رقم هاتف الشركة واسمها لأتأكد من وجودها.
- هذا هو الرقم ... ، اسألى عن المهندسة مريم.
- إلى اللقاء الآن يا صديقى، خمس دقائق وسأعاود الإتصال بك.
- إلى اللقاء.
مرت الخمس دقائق وكأنها خمس سنوات، عصيبة فى أشعة الشمس الحارقة، بعد خمس دقائق رن هاتفه :
- ألو، أجريت الإتصال يا صديقى، رفع سماعة الهاتف رجل، سألته عنها، فقال لى أنها موجودة على مكتبها، سألته عن موعد انصرافها من العمل فقال لى الساعة الثالثة، قال لى أنه سيقوم بتحويل الاتصال لها، إلا أننى شكرته وأغلقت الهاتف.
- أشكرك بشدة يا صديقتى، الآن اطمأن قلبى لوجودها، دقائق وسأراها وسألتقى بها بعدما عز اللقاء.
- إلى اللقاء الآن يا صديقى.
- إلى اللقاء يا صديقتى العزيزة.
أسرع للاستعداد للقاء، أحس بأن مثانته تكاد تنفجر، دخل دورة المياه على عجل، أفرغ ما فيها سريعاً، خرج من دورة المياه لكرسيه على الطوار المواجه للشركة وموجات التوتر تجتاحه، الساعة الثالثة إلا ربع، مرت الدقائق، الساعة الثالثة حمل حقيبة ظهره التى لا تُفارقه أينما ذهب، رآها تخرج من باب الشركة، اجتاحته رعشة مفاجأة، أخرج من جيبه قطعتين نقديتين من المعدن، جنيهان معدنيان، ثمن تذكرتي مترو، كان يُمنى نفسه بأن توافق على السير معه واستقلال المترو كما كانا يفعلان منذ شهور، أمسك قطعتى المعدن فى يده بقوه، أخذ يضغط عليهما بأصابعه لكسر توتره، تجاسر واقترب منها، كانت تحادث شخصاً ما عبر هاتفها وتطلب منه انتظارها عند ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، سار خلفها متردداً، أخرج هاتفه وقرر الإتصال بها رغم أنه لا يفصله عنها سوى مترين فقط، كالمعتاد لم تُجب وألغت المكالمة، ظهرت علامات الضيق على وجهه التى أزالت معها كل تردد، اقترب منها وهمس فى أذنها : كيف حالك سيدتى الجميلة اليوم ؟
لم تلتفت له، لم تتخل لحظة عن رباطة جأشها المعهودة، وقالت بصوت سيطرت عليه الجدية : لقد حذرتك من هذه الخطوة كثيراً، ارحل فى هدوء درءاً للمشاكل. ابن عمى قادم الآن وإذا رآك لا أضمن ما سيحدث بعدها.
غيرت وجهتها، وعادت لشارع قصر النيل مرة أخرى، سار بجانبها، ابتسم فى خجل وهمس : أنا آسف، ولكن أتيت اليوم ولى طلب واحد عندك، أُريد أن أُحادثك خمس دقائق، أُريد أن أفهم لماذا كل هذا يا عزيزتى ؟! لماذا انقلب كل ما بداخلك تجاهى إلى كل هذا الهروب من رؤيتى، من سماع صوتى حتى ؟!
زفرت بشدة، وأكدت على طلبها السابق منه، ارحل درءاً للمشاكل.
نظر إليها وهى تسير بسرعة لا تلوى على شئ، وقال : أنا لا أُريد من وقتك إلا خمس دقائق !
صرخت يا إلهى !، غيرت وجهتها وظل يسير بجانبها، تعبر الشارع يعبر معها، تدلف لشارع جانبى يدلف الشارع معها، مضت ربع ساعة من الدوران فى نفس المربع، دونما أى أمل فى أن تمنحه أى فرصة لإصلاح ما حدث بينهما من خصام.
هددته بأنها ستضطر لإبلاغ شرطى المرور بأنه يتحرش بها، كان القنوط قد وصل به لحالة من عدم الإستيعاب، قال لها والحزن يرسم على وجهه لوحة غاية فى البؤس : ألهذا الحال وصلنا يا عزيزتى ؟!
اتجهت باتجاه شرطى المرور فى منتصف الشارع، نفذّت تهديدها، قال بصوت مُستسلم : مريم !، ابتسم الشرطى فهيئته لا تدل على أنه من معتادى التحرش بالفتيات، وقال له : قف يا أستاذ بجانبى هنا، ارحلى أنتِ يا آنسة.
أخرج للشرطى بطاقته الشخصية، نظر الشرطى فى البطاقة ليقرأ مكان عمله المرموق، ابتسم له الشرطى، وقال له ماذا حدث ؟!
ابتسم للشرطى ابتسامة امتزجت بمرارة القنوط واستبداد اليأس، هى حبيبتى، أنا كنت حبيبها !
ابتسم له الشرطة ابتسامة رأفه بحالته وقال له : أسرع، هى لم تبتعد كثيراً، غداً يزول الخلاف وتعود المياه لمجراها.
ترك الشرطى وأسرع يقتفى أثرها، رآها، اقترب أكثر، كانا قد وصلا إلى ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، لم يستطع الإقتراب منها، كان هناك شخص بإنتظارها، حمل عنها حقيبتها، عبرا الطريق، عبر هو أيضاً الطريق باتجاه موقف الحافلات، تذكر منذ شهور عندما كان يعبر هذا الطريق ممسكاً يدها، كانت دائماً تحتمى به من السيارات، كانت طفلته المُدللة، هبت فجأة نسمات من الهواء البارد، تموج شعرها فى الهواء، تذكر تلك اللحظات التى كانت تسير فيها بجانبه وقت هبوب نسمات الهواء وتموج شعرها فى الهواء، موجات الضحك التى كان تتمكن منهما بعد كل نسمة هواء يرقص معها شعرها، اختفت وسط الزحام. تاه هو أيضاً وسط الزحام. بحث عنها ولكن دون جدوى. جلس منتظراً حافلة يستقلها للمنزل، فجأة قام من جلسته، اتجه باتجاه كورنيش النيل، قطع الطريق لا يشعر بشئ حوله، باتجاه الكورنيش أمام السفارة البريطانية، حيث لا وجود للباعة المزعجين، جلس على مصطبة على الطوار تطل على النيل، كانت هذه المصطبة هى أول مكان جلس معها فيه، سقطت دمعتان من عينيه، تملكته حالة من الإحباط من كل شئ.
تذكر قول بوذا : "هذه الحياة يا إبنتى .. كلها آلام .. والطريق الصحيح إلى الحياة الصالحة الخمس للاستقامة .. لا تقتل كائناً حياً .. لا تسرق أو تأخذ ما لم يعط لك .. لا تقل كذباً قط .. لا تقم على دنس .. لا تسكر أو تخدر نفسك فى أى وقت .."
ابتسم فى سخرية وقال : إذا لماذا نعيش يا سيد بوذا إذا كانت الحياة كلها آلام ! نعيش لكى نتألم أكثر فأكثر !
تذكر السيد المسيح ابن الله الذى افتدى البشرية بدمه، مخلص العالم بموته، ضحك فى سخرية أكثر وقال : أين الخلاص ونحن ما زلنا نتألم !
قرأ الآية القرآنية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ابتسم وقال : أين الرحمة وأصوات القنابل تصك آذننا، وأحزمتهم الناسفة تحول أجسادنا لأشلاء !
فتح حقيبته التى لا تفارقه، أخرج رواية "الحب فى زمن الكوليرا" التى لا تُفارقه أيضاً، فتح صفحة مئتين وثمانية وستين، اتجهت عيناه للسطر السابع عشر، قرأ ما كان يؤمن به فلورنتينو أريثا بطل الرواية «أنا لا أؤمن بالرب، ولكننى أخشاه»، ظل يُردد هذه العبارة، بعد دقائق أحس بأن وزنه أصبح أخف فأخف، لم يعد يشعر بجسده، أحس بأنه يتحرر من شئ ثقيل كان جاثماً فوق صدره، تنفس لأول مرة فى حياته بسهولة، لأول مرة يشعر بمثل هذا الشعور العجيب المُبهج، أغمض عينيه، استسلم والابتسامة لا تفارق وجهه. بعد نصف ساعة كانت سيارة إسعاف تقف ومسعفان يحملان جثمان شاب فى العقد الثالث من العمر تمدد على مصطبة على الكورنيش المواجه للسفارة البريطانية. بعد ساعة عبر طفل يبيع المناديل عند المصطبة الواقعة على كورنيش النيل المواجهة للسفارة البريطانية، التقط جنيهين معدنيين كانا على الأرض بجوار المصطبة، انطلق فرحاً بالجنيهين المعدنيين ..
جنيهان معدنيان
استيقظ فى الثامنة صباحا على صوت قلبه الدامى، تذكرها ظل عدة دقائق يردد هذا السؤال «لماذا يا عزيزتى ؟!» ..
ارتدى ملابسه على عجل، ذهب للعمل، قضى ساعة مرت وكأنها أسبوعاً من شدة الإضطراب، استأذن فى الانصراف لظروف خاصة، اتجه لمحطة المترو، استقل المترو باتجاه محل عملها، وصل وسط البلد الساعة الحادية عشر صباحاً، قطع شارع «محمود بسيونى» باتجاه ميدان طلعت حرب، ظل طوال الطريق يسأل نفسه كيف ستقابل جرأته هذه ؟!، وصل إلى طلعت حرب دخل شارع «قصر النيل»، جلس على مقهى احتل طوار الشارع أمام الشركة التى تعمل بها بانتظار موعد خروجها، مرت الدقائق بطيئة جداً، أتت الساعة الثانية ظهراً ولا جديد، توتر بشدة، قرر الاتصال بصديقته التى حكى لها عن معاناته :
- ألو، كيف حالك يا أمل ؟
- أنا بخير، أنت كيف حالك يا صديقى ؟
- أنا حتى الآن بخير، لقد قررت أن أتحدث معها يا أمل، أنا أجلس الآن على الطوار المواجه للشركة التى تعمل بها، لابد أن أصل لها، مرت ثلاث ساعات وأنا جالس هنا أستقبل لهيب الشمس وأشعتها الحارقة، وسأظل هكذا حتى أستطيع الفوز بلحظات قليلة من رؤيتها والحديث معها.
- أنت فارس نبيل يا صديقى فى حبك، كم هى محظوظة بك !
- إنه اليوم الثانى لى فى إستقبال أشعة الشمس الحارقة يا صديقتى، قضيت أول الأمس هنا دون جدوى، وعدت المنزل محبطاً، ارتميت على سريرى والصداع يفتك برأسى من طول الجلوس تحت لهيب الشمس فى هذا اليوم.
- سأتصل بك بعد نصف ساعة لأعرف ماذا فعلت ؟
- لا أعرف كيف أشكرك أيتها الصديقة الطيبة !
- لا تقُل ذلك، سأتصل بك بعد نصف ساعة كما اتفقنا، إلى اللقاء.
- إلى اللقاء.
مرت نصف ساعة، رن هاتفه المحمول :
- ألو، هل من جديد يا صديقى ؟
- لا للأسف، أخشى أن يمر هذا اليوم كسابقه دون جدوى.
- أعطنى رقم هاتف الشركة واسمها لأتأكد من وجودها.
- هذا هو الرقم ... ، اسألى عن المهندسة مريم.
- إلى اللقاء الآن يا صديقى، خمس دقائق وسأعاود الإتصال بك.
- إلى اللقاء.
مرت الخمس دقائق وكأنها خمس سنوات، عصيبة فى أشعة الشمس الحارقة، بعد خمس دقائق رن هاتفه :
- ألو، أجريت الإتصال يا صديقى، رفع سماعة الهاتف رجل، سألته عنها، فقال لى أنها موجودة على مكتبها، سألته عن موعد انصرافها من العمل فقال لى الساعة الثالثة، قال لى أنه سيقوم بتحويل الاتصال لها، إلا أننى شكرته وأغلقت الهاتف.
- أشكرك بشدة يا صديقتى، الآن اطمأن قلبى لوجودها، دقائق وسأراها وسألتقى بها بعدما عز اللقاء.
- إلى اللقاء الآن يا صديقى.
- إلى اللقاء يا صديقتى العزيزة.
أسرع للاستعداد للقاء، أحس بأن مثانته تكاد تنفجر، دخل دورة المياه على عجل، أفرغ ما فيها سريعاً، خرج من دورة المياه لكرسيه على الطوار المواجه للشركة وموجات التوتر تجتاحه، الساعة الثالثة إلا ربع، مرت الدقائق، الساعة الثالثة حمل حقيبة ظهره التى لا تُفارقه أينما ذهب، رآها تخرج من باب الشركة، اجتاحته رعشة مفاجأة، أخرج من جيبه قطعتين نقديتين من المعدن، جنيهان معدنيان، ثمن تذكرتي مترو، كان يُمنى نفسه بأن توافق على السير معه واستقلال المترو كما كانا يفعلان منذ شهور، أمسك قطعتى المعدن فى يده بقوه، أخذ يضغط عليهما بأصابعه لكسر توتره، تجاسر واقترب منها، كانت تحادث شخصاً ما عبر هاتفها وتطلب منه انتظارها عند ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، سار خلفها متردداً، أخرج هاتفه وقرر الإتصال بها رغم أنه لا يفصله عنها سوى مترين فقط، كالمعتاد لم تُجب وألغت المكالمة، ظهرت علامات الضيق على وجهه التى أزالت معها كل تردد، اقترب منها وهمس فى أذنها : كيف حالك سيدتى الجميلة اليوم ؟
لم تلتفت له، لم تتخل لحظة عن رباطة جأشها المعهودة، وقالت بصوت سيطرت عليه الجدية : لقد حذرتك من هذه الخطوة كثيراً، ارحل فى هدوء درءاً للمشاكل. ابن عمى قادم الآن وإذا رآك لا أضمن ما سيحدث بعدها.
غيرت وجهتها، وعادت لشارع قصر النيل مرة أخرى، سار بجانبها، ابتسم فى خجل وهمس : أنا آسف، ولكن أتيت اليوم ولى طلب واحد عندك، أُريد أن أُحادثك خمس دقائق، أُريد أن أفهم لماذا كل هذا يا عزيزتى ؟! لماذا انقلب كل ما بداخلك تجاهى إلى كل هذا الهروب من رؤيتى، من سماع صوتى حتى ؟!
زفرت بشدة، وأكدت على طلبها السابق منه، ارحل درءاً للمشاكل.
نظر إليها وهى تسير بسرعة لا تلوى على شئ، وقال : أنا لا أُريد من وقتك إلا خمس دقائق !
صرخت يا إلهى !، غيرت وجهتها وظل يسير بجانبها، تعبر الشارع يعبر معها، تدلف لشارع جانبى يدلف الشارع معها، مضت ربع ساعة من الدوران فى نفس المربع، دونما أى أمل فى أن تمنحه أى فرصة لإصلاح ما حدث بينهما من خصام.
هددته بأنها ستضطر لإبلاغ شرطى المرور بأنه يتحرش بها، كان القنوط قد وصل به لحالة من عدم الإستيعاب، قال لها والحزن يرسم على وجهه لوحة غاية فى البؤس : ألهذا الحال وصلنا يا عزيزتى ؟!
اتجهت باتجاه شرطى المرور فى منتصف الشارع، نفذّت تهديدها، قال بصوت مُستسلم : مريم !، ابتسم الشرطى فهيئته لا تدل على أنه من معتادى التحرش بالفتيات، وقال له : قف يا أستاذ بجانبى هنا، ارحلى أنتِ يا آنسة.
أخرج للشرطى بطاقته الشخصية، نظر الشرطى فى البطاقة ليقرأ مكان عمله المرموق، ابتسم له الشرطى، وقال له ماذا حدث ؟!
ابتسم للشرطى ابتسامة امتزجت بمرارة القنوط واستبداد اليأس، هى حبيبتى، أنا كنت حبيبها !
ابتسم له الشرطة ابتسامة رأفه بحالته وقال له : أسرع، هى لم تبتعد كثيراً، غداً يزول الخلاف وتعود المياه لمجراها.
ترك الشرطى وأسرع يقتفى أثرها، رآها، اقترب أكثر، كانا قد وصلا إلى ميدان الشهيد عبد المنعم رياض، لم يستطع الإقتراب منها، كان هناك شخص بإنتظارها، حمل عنها حقيبتها، عبرا الطريق، عبر هو أيضاً الطريق باتجاه موقف الحافلات، تذكر منذ شهور عندما كان يعبر هذا الطريق ممسكاً يدها، كانت دائماً تحتمى به من السيارات، كانت طفلته المُدللة، هبت فجأة نسمات من الهواء البارد، تموج شعرها فى الهواء، تذكر تلك اللحظات التى كانت تسير فيها بجانبه وقت هبوب نسمات الهواء وتموج شعرها فى الهواء، موجات الضحك التى كان تتمكن منهما بعد كل نسمة هواء يرقص معها شعرها، اختفت وسط الزحام. تاه هو أيضاً وسط الزحام. بحث عنها ولكن دون جدوى. جلس منتظراً حافلة يستقلها للمنزل، فجأة قام من جلسته، اتجه باتجاه كورنيش النيل، قطع الطريق لا يشعر بشئ حوله، باتجاه الكورنيش أمام السفارة البريطانية، حيث لا وجود للباعة المزعجين، جلس على مصطبة على الطوار تطل على النيل، كانت هذه المصطبة هى أول مكان جلس معها فيه، سقطت دمعتان من عينيه، تملكته حالة من الإحباط من كل شئ.
تذكر قول بوذا : "هذه الحياة يا إبنتى .. كلها آلام .. والطريق الصحيح إلى الحياة الصالحة الخمس للاستقامة .. لا تقتل كائناً حياً .. لا تسرق أو تأخذ ما لم يعط لك .. لا تقل كذباً قط .. لا تقم على دنس .. لا تسكر أو تخدر نفسك فى أى وقت .."
ابتسم فى سخرية وقال : إذا لماذا نعيش يا سيد بوذا إذا كانت الحياة كلها آلام ! نعيش لكى نتألم أكثر فأكثر !
تذكر السيد المسيح ابن الله الذى افتدى البشرية بدمه، مخلص العالم بموته، ضحك فى سخرية أكثر وقال : أين الخلاص ونحن ما زلنا نتألم !
قرأ الآية القرآنية "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، ابتسم وقال : أين الرحمة وأصوات القنابل تصك آذننا، وأحزمتهم الناسفة تحول أجسادنا لأشلاء !
فتح حقيبته التى لا تفارقه، أخرج رواية "الحب فى زمن الكوليرا" التى لا تُفارقه أيضاً، فتح صفحة مئتين وثمانية وستين، اتجهت عيناه للسطر السابع عشر، قرأ ما كان يؤمن به فلورنتينو أريثا بطل الرواية «أنا لا أؤمن بالرب، ولكننى أخشاه»، ظل يُردد هذه العبارة، بعد دقائق أحس بأن وزنه أصبح أخف فأخف، لم يعد يشعر بجسده، أحس بأنه يتحرر من شئ ثقيل كان جاثماً فوق صدره، تنفس لأول مرة فى حياته بسهولة، لأول مرة يشعر بمثل هذا الشعور العجيب المُبهج، أغمض عينيه، استسلم والابتسامة لا تفارق وجهه. بعد نصف ساعة كانت سيارة إسعاف تقف ومسعفان يحملان جثمان شاب فى العقد الثالث من العمر تمدد على مصطبة على الكورنيش المواجه للسفارة البريطانية. بعد ساعة عبر طفل يبيع المناديل عند المصطبة الواقعة على كورنيش النيل المواجهة للسفارة البريطانية، التقط جنيهين معدنيين كانا على الأرض بجوار المصطبة، انطلق فرحاً بالجنيهين المعدنيين ..
لينك القصة ع الفيس :
https://www.facebook.com/pharmacisteg/posts/10201839239173117?ref=notif¬if_t=like
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق