كثر الكلام بين الفقهاء وأهل الفتاوى عن حل وحرمة شهادات الأستثمار وودائع البنوك وسندات التنمية .. فقال البعض بالحل وقال البعض بالحرمة وكان لكل منهم حجته وأسبابه .
وأنا فى الحقيقة أنظر إلى الموضوع من منظور مختلف ..., وأبدأ الموضوع من بدايته .... فالموضوع يدور على المال ...الذى يستثمره صاحبه ليربو (اى ليزداد ) والكلام دائما عن الزيادة هل هى حرام أم حلال ؟.
ولكن الواقع يا سادة ... ان المال الذى يودع فى البنوك لا يربو ولا يزداد وإنما يتآكل بالتضخم المستمر ... ونسبة هذا التضخم فى مصر هى مابين 25-30 فى المائة ... وهى فى العالم كله .. حول ذلك أو اكثر او اقل .
أي انك إذا أودعت ألف جنيه فى بنك القاهرة ... ثم استرددتها بعد سنة فإن قيمتها الشرائية والفعلية ( اى مقابلها الذهبى ) سوف تنخفض بمقدار الربع فتستردها من البنك 750 جنيها فقط بحساب القيمة وإن كانت فى يدك ألفا .. فإذا تفضل عليك البنك بفوائد 15% مثلا فإنك ستقبضها 900 جنيها من حيث قيمتها الفعلية .. أى بأقل مما أودعتها منذ سنة .. اى أنه لا ربا فى الموضوع رغم الفوائد والزيادة الوهمية فى يدك .. لان المبلغ فى حقيقته لم يرب لان قدرته الشرائية انخفضت وهذا شأن الفلوس الورق فى هذا الزمان .
وفى أيام محمد عليه الصلاة والسلام حينما نزلت الشريعة كان الناس يبيعون ويشترون بالذهب والفضة .. وهى أشياء حافظة لقيمتها .. وكان الوضع مختلفا .. وكانت الفلوس تربو عند المرابى بالفعل ولهذا انطبق عليها التحريم وصدق وصف الاستغلال ..لانها تربو وتزداد بظلم وطمع وجشع المرابى الذى لا يقرض الا بزيادة .والوضع الآن مختلف فالعملة ورقية يطبع منها الحاكم مايشاء ولا يستطيع برلمان أن يحاسبه فيهبط بقيمتها إلى الحضيض وتمتلىء الآيدى بأوراق لا قيمة لها ويعيش الناس فى تضخم قاتل ويصبح ما يأخذه صاحب الوديعة من البنك بعد ضم الفائدة أقل من أصل الوديعة ... فالمال لا يربو .. ولا ربا فى واقع الامر ..
ثم ان الذى يقترض منا المال ليس هو الفقير المحتاج المأزوم وإنما الدولة هى التى تقترض المال لتسثمره فى مشاريع وأعمال وإنشاءات وإسكان ومدارس ومصانع تعود بالخير والنفع على المجتمع .. وأنت لا تقرضها ليربو مالك ويزداد ... فالحقيقة انه لايزداد بل ينقص ويتآكل رغم الفائدة 15% التى تأخذها من البنك ...
لأن هناك نقصا فى القيمة الشرائية أصاب نقودك يبلغ 35% .. اى أنك فى الحقيقة استرددت قرضك بناقص 10% من حيث القيمة الشرائية .. والبنك عوض هذه ال 35% خسارة بمقدار 15% فائدة فأصبحت خاسرا 10% فقط ... فلا زيادة ولا ربا فى الموضوع ... فالمشكلة الفقهية لا جود لها .
ومنذ سنوات وفى ندوة بمسجدنا دار بينى وبين المفتى الشيخ خاطر كلام بهذا المعنى .. فاحتد الرجل ورفع عقيرته ولوح بيديه وقال بأنى أخرج بالموضوع إلى متاهات وأن الضخم ظاهرة عارضة لا يصح أن يقام عليها حكم .. وأن ما أقوله بدعة ستقودنى إلى الكفر والعياذ بالله ... ورأيت الموضوع سيتطور إلى مشاجرة ومشادة فأثرت السكوت ولم أعلق .وكان ذلك منذ 15 سنة وكان سعر الدولار حينئذ 60قرشا والتضخم وقتها لم يكن ظاهرة عارضة كما قال الشيخ بل ظل يعمل ويعمل وظل يتفاقم حتى بلغ سعر الدولار اليوم 330 قرشا , ومعنى ذلك ان الجنيه المصرى انسحق إلى أقل من عشر قيمته ... وهو الآن ريالا سعوديا بعد ان كان 12 ريالا سعوديا ... و العالم سائر إلى تضخم أكثر وأكثر بسبب تزايد السكان والحروب وفساد البيئة والبطالة وهبوط الإنتاج وارتفاع سعر الطاقة .. إلخ إلخ إلخ .
إذن التضخم ليس ظاهرة عارضة كما قال الفقيه الفاضل , وكما يقول بعض الفقهاء بل هو كارثة مستمرة يجب أن ندخلها فى حساب الأحكام .. وإلا كنا نعطل عقولنا ونلقى به فى صندوق القمامة ... وممنوع أن يجتهد ويفكر .. وممنوع أن يتدبر وممنوع أن يتأمل .
والدليل على ذلك هذه الخناقة الحامية بين الفقهاء على الربا وحله وحرمته فى قضية الودائع البنكية وشهادات الأستثمار وسندات التنمية ... بينما فى الواقع لا يوجد ربا بالمرة .. والنقود لا تربو ولا تزداد ... بل تنقص وتتآكل رغم الفوائد القليلة التى لا تزيد عن كونها تعويضا عن بعض الخسارة .. وهو كلام ينطبق على المودع وفيه إبراء لذمته لانه لا يأخذ زيادة .. ولكنه لا يبرىء البنوك من الشبهة ..
لأنها تأخذ الودائع على ذمة أستثمارتها ثم لا تستثمرها بل تعود فتعطيها سلفا وقروضا بفوائد أكبر تصل إلى 25 % وتقبض الفرق دون أن تؤدي أي عمل إيجابى ودون أن تبنى للمجتمع شيئا .. ويظل المال فى خزائنها مجرد ترانزيت لا يؤدى وظيفة سوى الأقراض و الأستقراض ... ثم ان الفوائد العالية التى تقرض بها أصحاب المشاريع تؤدى إلى رفع الأسعار والتضخم .. وتعود الحلقة المفرغة للتضخم لتهبط بالقيمة الشرائية للعملة اكثر فأكثر .
والبدائل الأخرى أمام المودعين .. هى الأتجاه إلى الريان والسعد والشريف والهدى وجماعات توظيف الأموال الإسلامية لا تستطيع هى الأخرى أن توظف كل أموالها فلا تجد مفرا من إيداع جزء كبير من أرصدتها بفوائد فى الخارج حتى لا تتآكل بفعل التضخم .
والعيب هو فى النظام المالى العالمى كله الذى اخترعه اليهود , ويديره اليهود والشبهة الربوية تقع على النظام ككل وعلى مبدعيه ومؤسسيه .. وهى دول عظمى فى يدها الثروة والسلاح والقوة العسكرية والهيمنة السياسية .
وليس فى إمكان دول ضعيفة متسولة ان تغير هذا النظام العالمى وهى مرتبطة به بالضرورة شاءت ام أبت .. لقمتها وكسوتها وحياتها ودفاعاتها مرتبطة به .. وهى لا تستطيع أن تستقل عن الاقتصاد العالمى .
والمودع فى آخر السلسلة ضحية .. وهو أمام ضرورة لا بديل عنها .. والضرورات فى جميع الشرائع تبيح المحظروات .
وهو يودع نقوده بنية أستثمارية .. وهى نية سليمة .. ثم يقبض فوائد وهمية اقل فى قيمتها من أصل ماله .. فلا زيادة .. بل خسارة .. فهو برىء من الناحيتين .
وهذا بعض مايقال فى هذه الغابة التى اسمها .. البنوك والفوائد .. التى كثر فيها الخلاف وفى اكثر من معركة حول الشريعة .. وحول الحلال والحرام فى حياتنا .
ومايزال فقهاؤنا ينظرون إلى الشريعة على أنها نصوص جامدة لا يجوز التفكير فيها .. وما يزالون يرفضون اجتهاد العاقل فى النصوص أو أعمال الأستنباط فيها .. مع ان النبى محمد عليه الصلاة والسلام أعطانا المثال فى سنوات الحرب وكذلك خليفته عمر بن الخطاب فى سنوات المجاعة فلم يقطع النبى عليه الصلاة والسلام يد السارق فى الحرب , وكذلك خليفته عمر بن الخطاب فى سنوات المجاعة ... رغم ان آية القطع جاءت فى القرآن مطلقة بلا أستثناء .
ولكن العقل والحكمة والرحمة .. كانت الأسباب التى أدت بالنبى عليه الصلاة والسلام أن يمتنع عن القطع فى وقت الحروب لأن قطع اليد سيؤدى إلى زيادة فى المنكر بفرار المسلم إلى المعسكر الآخر , وكذلك فى عام المجاعة كان القطع سيكون زيادة فى الظلم .
ولذلك قال العز ابن عبد السلام كلمته الشهيرة : إذا كان تطبيق الحدود سيؤدى إلى زيادة فى المنكر فالأولى بنا أن نكتفى بالعقوبات التعزيزية الموجودة .
وأصبح هناك باب كبير فى الفقه اسمه ( شيوع البلاوى ) له أحكامه ... فحينما تشيع الفتن وتفسد الذمم ويصبح شراء شهود الزور على أبواب المحاكم أسهل من شراء حفنة أرز .. ويصبح تجريم الأبرياء بشهادة هؤلاء وقطع الأيدى ورجم الحرائر أمرا سهلا ميسورا ... مادام شهود الزور على استعداد لقول أى شىء .. فإن الشريعة نفسها يمكن ان تتحول فى أيدى هؤلاء السفلة إلى أداة ظلم بشعة .. ويجب حينئذ الاحتراز من تطبيق الحدود .. فما أراد الشارع سبحانه وتعالى بشريعته إلا أن تكون إصلاحا .. لم يرد بها أن تكون ذريعة استبداد فى يد السفلة .
وقد بدأنا الدخول فى هذا العصر يا سادة .. عصر صدام وعصر الطغيان .. عصر الفتن المضلة والأكاذيب المطيلة بالمبادىء .. والذمم المشتراة بسبائك الذهب .. وذمم من ؟ ذمم ملوك ورؤساء وقادة وحكام وفقهاء كتاب .
وفى هذا العصر الملتوى المشبوه يلزم أن يصحو العقل ويأخذ العصا القيادة ويلزم أن تتفتح العيون وتتنبه الحواس وتتيقظ الضمائر .. ونخرج من حالة التحجر والتعصب والانغلاق السلفى على النصوص والتورع عن التفكير .
أقول لابد من ثورة عقلية كاملة تعيد للإسلام نضارته وبهاءه وتنقذها من هذا التخشب والتحجر والتجمد والموات .
العقل والعلم والعمل .. ثلاثة فرسان لابد أن يدخلوا الساحة ويملؤوا الفجوة التى أحدثتها قرون الجهل والتخلف بالإسلام .
إن الإسلام دين عقل ودين علم ... ودين عمل .نريد عقولا تقتحم قلب المشكلة .. وليس أطرافها وحواشيها .
ان اكبر الحرام ألا نفكر وألا نعمل وألا نتعلم , أما هذا الذى يميل عليك بهمس مرتجف : هل تحية العلم فى الجيش .. حرام ... هلى هى وثنية ؟ هل تعليق صورة على الحائط حرام ؟هل الزهور البلاستيك حرام لانها تقليد لصنعة الله ؟ هل الخل حرام لانه يأت من التخمير ؟هل يجوز وضع الكحول على الجروح أم هو حرام لانه خمر ؟ هل الوضوء إلى الكوع أم لابد أن يشمل الكوع ؟ هل تمثال طلعت حرب فى ميدان سليمان باشا حرام ؟ هل القمصان النيلون مكروهه للرجال ؟ هل الموسيقى حرام ؟ هل الأستماع لأم كلثوم حرام ؟ هل نضع اليدين على الصدر أثناء الصلاة أم نرسلهما ؟ وماذا لو كانت للمصلى ذراع واحدة ؟ وماذا عن العطور والمانيكير ؟ وهل يكفى الحجاب أم يلزم النقاب ؟ وماطول الجلباب الشرعى حتى نكون على السنة ؟ وما شروط إرسال اللحية وما مواصفاتها المطلوبة فى السنة ؟
وينسى هؤلاء وأولئك ان السنة النبوية هى أولا خلق وسلوك وتقوى .. ولم يكن أحد يلتفت إلى لحية النبى عليه الصلاة والسلام أيام البعثة , فقد كان أبو جهل له لحية وأبو لهب له لحية والكل لهم لحى .. ولم تكن اللحى تعنى شيئا .. وحينما احتكموا إلى محمد عليه الصلاة والسلام فى من يرفع الحجر الأسود .. كان أول ما قالوه حينما رأوه مقبلا .. أن قالوا .. جاء الأمين محمد .. لم ير أحد منهم لحيته وإنما الشىء اللافت والمميز كان أمانته .. كانت هذه حلية الرجل .. وبهذا عرفوه .
وهكذا كان يعرف الرجال وهكذا كانوا يتميزون .. بأمانتهم وخلقهم لا بلحاهم وشواربهم وهذا هو مدار السنة وجوهر السيرة وروح الدين
ففيم الضياع فى كل هذه المظاهر والهوامش والتفاصيل ولأمور الثانوية والأسئلة الجانبية والقضايا الخلافية .. بينما الحق مهجور والخلق منكور والعقل مغمى عليه .. تماما كما حدث من قديم حينما أختلف القوم .. ورفعوا اختلافهم إلى المفتى سائلين ... هل دم البرغوت ينجس أم لا يا سيدنا . فقال الرجل فى استنكار .. تقولون هذا وأيديكم ملوثة بدم الحسين .. قاتلكم الله .. ونحن مازلنا فى هذا الدرك من التخلف .. والتفاهة العقلية .. نتشاجر على صغائر ونختلف على شكليات .. بينما لب الدين نفسه مهجور وقضية الأخلاق لا ذكر لها .. والاقتصاد الذى تدور حوله رحى المجتمع ويعتمد على رخاء الناس وأرزاقهم لا نعلم عنه شيئا .
إلى متى نظل غائبين عن الحقيقة الكبرى التى إسمها الإسلام ؟وإلى متى يظل إسلامنا نصوصا بلا فكر وتقليدا بلا تدبر ؟ وكما يقول الشيخ الغزالى : تنظر إلى السلم فتراه من فانلته إلى قميصه إلى بذلته مستوردا وترى القلم فى يده صناعة المانية والتليفزيون صناعة يابانية والراديو صناعة كورية والتكييف صناعة انجليزية حتى الجلباب من هونج كونج والطاقية من الصين والساعة من سويسرا والنظارة امريكية والحذاء إيطالى والسبحة آندونيسية والخادمة فيليبنية والمربية سيرلانكية .
وتعجب لحاله .. فلم يبق فيه شىء يدل على هويته .. شىء واحد صنعته يداه . وإذا كان عالمنا كله أصبح صناعة أجنبية .. والجزء الهزيل الذى تبقى لنا .. وهو لغتنا العربية جعلنا منها وسيلة خلاف وشقاق وتكفير .. كل واحد يحاول أن يخرج الآخر من الملة لانه يقول كلاما مختلفا .. فإلى أى حضيض وصلنا .. قلوبنا أصبحت شتى .. وبأسنا بيننا شديد .. ومجموعنا لا شىء . فمتى نهتدى إلى لب الأمر وجوهر الموضوع .. ونفهم أن الدين علم وعمل ومكارم أخلاق وأن الاجتهاد لايضر بالدين ولكن يزيد خصوبته وأن الاختلاف هو أساس غنى مجتمعات إذا ترجم غلى أفكار وأعمال . والحضارة كلها كانت عطاء ناس مختلفين .. ولكنهم عرفوا كيف يختلفون ليعطوا وليكملوا لا ليهدموا بعضهم البعض .
وكنا نقرأ تفسير القرأن فى الكتب القديمة فنرى للصفحة ثلاثة هوامش وفى كل هامش تفسير مختلف للأية .. دون آن يطعن الواحد فى ذمة الآخر أو يكفره . فمتى تعود هذه الصولة الفكرية والصحوة العقلية .. لدين معجزته الأولى العقلانية ؟! .. فلم يعط الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام عصا يشق بها البحر .. وإنما أعطاه حجة وبيانا ومنطقا يبهر العقول .
........................................
د.مصطفى محمود
عالم الاسرار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق