- أنت لا تعرف يا سيدى ماذا رأيت اليوم و لا لماذا يأكلنى قلبى على سمير. و لكنك لو رأيت ماذا رأيت ما رأيته ! قلت لك : كانت هناك مظاهرات فى التحرير و لكننى لم أحك لك شيئاً . لا تقلق لم أرى سمير و لا أعرف عنه أى شئ و مع ذلك جئت لأطمئن عليه.
كنت اَتية من شبرا فى الترام، و قبل أن نصل إلى ميدان التحرير، و عند الأنتكخانة وقف الترام و كانت تقف أمامه عربات ترام كثيرة، ورأيت عند سور الأنتكخانة كثيراً من العساكلا بملابسهم السوداء و على رءوسهم برانيط الحديد و بأيديهم الشوم.
سألنا فقالوا لنا : إن مظاهرة الطلبة فى ميدان التحرير.و جاء السائق و جلس معنا فى ديوان الدرجة الأولى و هو يقول : ربنا يستر.
نزل كثير من الركاب و بقى معى فى الديوان رجل عجوز و معه ابنه الشاب و كان يصرخ و وجهه محمر و الولد، يا عينى، لا يفتح فمه بكلمه. كان يقول : ماذا يريدون يريدون أن يخربوا البلد؟! يريدون أن نحارب و نحن لم نستعد؟! عندما كنا شباباً كنا نعمل مظاهرات ضد الإنجليز. قال هذا و هو يُدير نظراته بيننا نحن الجالسين فى الديوان و لا أعرف ماذا كان يريد منا أن نقول له؛ لأنه هو نفسه الله يخرب بيته يمشى فى المظاهرات ضد الإنجليز. و كلما علا صوته أحنى ابنه رأسه فى الأرض. و كنا مجبرين أن نستمع إليه؛ لأننا كنا محبوسين فى الترام و الناس يقولون : إن البوليس يضرب الطلبة فى التحرير. و أخيراً خرس و اصفر وجهه عندما رأينا العساكر الواقفين عند الأنتكخانه يجرون ناحية الميدان و يرفعون عصيهم.
و حين نظرت من شباك الترام رأيت حوالى خمسين أو ستين من الطلبة يجرون و هم يضعون كتبهم و أيديهم على رءوسهم و من ورائهم العساكر، و الطلبة يقولون : بلادى بلادى. و العساكر يضربون و لا هم هنا. و قابل الطلبة و هم يجرون العساكر الذين كانوا يقفون عند ميدان الأنتكخانة و حصروهم بينهم و بالشوم و هات.
و جرى واحد من الطلبة و قفز إلى ترام واقف و وثب من شباكه إلى الناحية الأخرى خلف صف العربات الواقفة و لكن كان هناك عساكر أيضاً عند أول شارع شامبليون، فاستدار و قفز من شباك الترام الذى نركبه و زحف على يديه و رجليه حتى اختبأ فى الديوان عند أقدامنا.
كان مجروحاً فى رأسه و الدم ينزف من جبينه على أرضية الترام فاعطيته منديلى لكنه كان صغيراً و رحت أفتش فى شنطتى عن شئ أكبر. و كانت امرأة عجوز تجلس على أرض الترام قرب ديوان الدرجة الأولى و هى تستند على قفة فأخرجت منها خرقة كبيرة و أعطتها له و هى تقول يا كبدى يا ابنى. و فى هذه اللحظة صعد إلى الترام عسكرى و هو يلهث و زملاؤه تحت يقولون له : هنا هنا .. فتش الترام. و بدون أن تنظر المرأة العجوز أزاحت قفتها قليلاً لتخفى الطالب المقرفص على الأرض و لكن العسكرى راَه و هم نحو الديوان فقالت العجوز بصوت خافت : ربنا يسترها يا ابنى. لو عندك ابن أو أخ صغير ربنا يبارك لك. مجروح يا كبدى. و مدت يدها على قفتها و كأنها ستسد باب الديوان.
و تطلع العسكرى إلى وجوهنا ثم إلى الطالب على أرضية الترام و وقف قليلاً لينزل، و لكن كان زميل له يحاول أن يصعد تسبقه عصاه فقال له : لا أحد هنا، أنا فتشت الترام. و لكن زميله دفعه فى صدره و هو يقول : بل هنا. فتشنا كل العربات الأخرى. و فى هذه اللحظة يا سيدى وقف الأفندى ابن الحرام صاحب المظاهرات ضد الإنجليز و قال منادياً العسكرى و هو يشير بيده إلى الأرض : هنا يا عسكرى، تعال هنا. دفع العسكرى الواقف على السلم زميله حتى كاند يقع و داس على المرأة العجوز و هجم على الطالب و فعه من رقبته و حاول الطالب أن يقف و هو يقول بلادى بلادى .. و لكن العسكرى أخذ يجره على ركبته و يقول له : اخرس. و عندما دحرجه خارج الترام و تلقفه العساكر الاَخرون بالشوم كفت المرأة العجوز التى هرسها العسكرى عن التأوه و تطلعت إلينا و كأنها تستفسر منا. ثم نظرت إلى الأفندى الذى كان لا يزال واقفاً و بصقت على أرض الترام دون صوت.
و فجأة قام ابنه الذى كان يضع يده على وجهه ثم اندفع يجرى خارج الترام و هو يبكى و يصيح : بلادى بلادى. فتلقفه العسكر. و صرخ الأفندى و هو يهيم وراءه : يا ولد .. و قام يصرخ فى العساكر الذين يسدون باب الترام : لا تضربوه . هذا ابنى. ابنى أنا. لكن أحدهم لكزه فى صدره بعصاه و صرخ فيه : ارجع مكانك يا أفندى. فانحط مكانه. انظر أترى إلى هذه البقع الصغيرة من الدم على الفستان؟ إنه دم الطالب الذى تناثر علينا عنما رفعه العسكرى من على أرض الترام. أين هو الاَن يا ولداه؟ و أين الأفندى ابن الحرام؟ و أين سمير؟ ...
من رواية " شرق النخيل" للكاتب المُبدع "بهاء طاهر"