يتكلّم الأصوليون كثيرا عن النّشاط الجنسيّ ودائما بطريقة سلبيّة كما لو أنّ الجنس شرّ من حيث الأصل. هاجسهم هو الجنس. وهذا أمر منطقيّ من حيث أنّهم قبل كلّ شيء بشر محبَطون. الإحباط، عندهم، هو الافتقار إلى القدرة، وبمزيد من الدّقّة، هو انعدام الفحولة.
للأصوليين مشكلة مع فحولتهم الخاصّة. كما أنّ الأصوليّ يخلط بين الفحولة والخشونة. فهو بحاجة إلى أن يكون خشنا، أي إلى أن يهيمن، أن يحتقر الآخر ليشعر بأنّه فحل. ومن خلال ظاهرة التّعويض المفرط، فإنّ هذا النّوع من السّلوك هو نفسه لدى جميع أولئك الّذين استقرّوا في اليقينيات. فكلّ معتنقي الإيديولوجيا لهم نفس التّصوّر للتّاريخ. إذ يعتبرونه بمثابة المعركة الرّهيبة الّتي تنتهي، بفضل الكأس المقدّسة Graal الّذي هم متأكّدون من أنّهم قد تحصّلوا عليه، بالنّصر الرّؤيويّ للأخيار على الأشرار. الكأس المقدّسة، بالنّسبة إلى الأصوليين الدّينيين، هي الإيمان.
جميع الأصوليات تشترك في نفس الاستيهام. جميعها تحلم بإعادة إقامة ماض أسطوريّ. جميعها تلتزم بحقيقة قيلت من قبل مرّة واحدة وأخيرة، جميعها تدين الحداثة والدّيمقراطيّة، جميعها ترى في كلّ فكرة جديدة خطأ لا بدّ من محاربته وفي كلّ من يبتكرها عدوّا لا بدّ من القضاء عليه. جميع الأصوليين، في أعماقهم، يطمحون إلى استعادة الوضع المثاليّ أو الاندماجيّ الّذي عرفوه عندما كانوا في رحم أمّهاتهم.
وإنّه من الدّامغ أن نرى جميع الأصوليات خصوصا منها الدّينيّة تكرّم الأمّ وتمقت النّساء اللّواتي هنّ على الدّوام أولى ضحاياها. لم كلّ هذا الكره تجاه النّساء؟ كلّ شيء يحدث لدى المتزمّتين كما لو أنّ الاختلاف الجنسيّ مرض مخجل، كما لو أنّ الأنوثة تخفي خطرا غامضا، يكون الموت أفضل منه ألف مرّة. لا يخاف الأصوليون الطّاهرون المتصلّبون من الموت : إنّهم يخافون من المرأة. ولكن لم يخشى أناس بهذه القوّة أناسا بمثل هذا "الضّعف" هنّ النّساء كما يُفترَضن؟ وهؤلاء الرّجال الّذين لا يكفّون عن تأكيد فحولتهم القويّة من خلال احتقارهم للنّساء واستعدادهم للتّضحية بالنّفس، لماذا يجدون كلّ هذه الصّعوبة في إظهار فحولتهم؟ هل يكون لديهم شكّ في هذا الخصوص؟ إنّ الخوف من فقدان سيطرته الفحلة هو أمر مركزيّ في المعضلة الذّكريّة. يعود ذلك أوّلا إلى أنّ الانتصاب ليس فعلا إراديّا. فعدم القدرة على التّحكّم في انتصابه يتسبّب في جرح نرجسيّ. وعوضا عن أن يتحمّل رغبته، سيرى الأصوليّ في النّساء كائنات لهنّ قدرة خفيّة على السّيطرة عليه. من هنا جاءت خرافة السّاحرة الشّهيرة.
إنّ المرأة ترمز إلى الإغراء والغواية، إنّها الّتي تحيد بالمرء عن الصّراط المستقيم. لهذا السّبب فإنّ حجب النّساء ليس فقط إنكارا للواقع بل هو أيضا تجنّب للاختلاف الجنسيّ، وفي نهاية الأمر، للنّشاط الجنسيّ الذّكوريّ. تمثّل المرأة أيضا غياب القضيب. إنّها تلك المخصيّة. وإنّ هذا الغياب للقضيب يجرّدها من الحقوق. لهذا اعتبر الضّعف مرادفا للمرأة. ونتيجة لذلك، ينبغي أن يُحصر مكانها في البيت. وما بين الإقصاء والشّيطنة خطوة واحدة. لا بدّ مهما كان الثّمن من حماية المجتمع من النّساء. فبسبب المرأة أُبعد الرّجل من فردوسه الأصليّ.
إنّ جميع الأصوليين أعداء للمرأة. فهم جميعا يؤكّدون أنّهم يكنّون التّقدير الكبير للمرأة وأنّ كلّ ما يقومون به من أجلها إنّما هو تكريم لها. أمّا في الواقع، فالمرأة الوحيدة الّتي يحترمونها هي الأمّ. من الواضح تماما أنّ فرض الحجاب على النّساء، وأنّ مطالبتهنّ بأن يخضعن للأب وللزّوج وللأخ لا يمتّ بصلة إلى مشاعر الحبّ ! على أنّ هذه السّلوكيات، داخل نظام تصوّر الأصوليين، تجد بالنّسبة إلى الأغلبيّة مبرّرات لها مرتبطة بمفهوم الطّهارة. فللنّساء القدرة على الحمل. فلا بدّ إذن من مراقبتهنّ لضمان طهارة المجموعة. ولأنّ النّساء هنّ من يحملن، لا يستطيع الرّجل أبدا أن يتحقّق من انتساب الطّفل إليه، لهذا يكون من الضّروريّ مراقبة نّشاط المرأة الجنسيّ. ليس للتّشادور والبرقع من وظيفة أخرى غير تلك. ولكنّ النّساء دائما يُرتاب في أنّهنّ مخلوقات غير عفيفات، لأنّهنّ يفقدن الدّم باستمرار. وهكذا مهما فعلن فهنّ مذنبات ! إنّ استيهام الطّهارة هو الأساس اللاّواعي لجميع الإيديولوجيات الكليانيّة. إنّ كلمة السّرّ الّتي تدعو إلى المجازر وإلى الهمجيّة هي "التّطهير". ومن نتائج أسطورة التّطهير هذه الحقد على من هو مختلف : اليهوديّ، الماسوني ، المفكّر الحرّ، الخ. وأصل هذا الحقد هو كره الذّات، إذ توجد فعليّا مسافة بين صورة الذّات كما نرغب في أن ننقلها إلى الآخرين وبين ما نكونه فعليّا ويعبّر عن نفسه أحببنا أم كرهنا.
هذا الرّفض للطّبيعة العميقة يمكن إن يصل إلى حدّ التّحطيم الذّاتيّ الّذي يسمّيه الأصوليون التّضحية. ومن هنا فائدة الحروب المقدّسة ! إنّ الأصوليّ في أكثر الأحيان عنيف تجاه من يجاوره. فالنّاس الّذين يستقرّون بقوّة في يقينياتهم يدينون فعليّا أولئك الّذين لا يشاطرونهم إيّاها.
لأنّهم مطمئنّون إلى قانونهم الخيّر وإلى الحقيقة الّتي يؤمنون بها، فهم يخضعون إلى الرّغبة في فرض إيمانهم بالعنف. فإذا رفض رجل مّا أن يبدّل دينه فإنّ حبّ الخير يوصيه حينئذ بأن يرغمه على ذلك. والحجّة هي : أنا أحاربه لمصلحته. وهكذا، يشرَّع العنف، وهو سبب إضافيّ لاعتبار الحرب يمكن أن تكون مقدّسة ! إنّه بفضل هذه النّوايا "الطّيّبة" يتمّ الانتقال من الرّغبة في الجنّة إلى الجحيم الّذي كما يبيّنه التّاريخ البشريّ لا علاقة له بما هو افتراضيّ. يخاف الأصوليون من النّشاط الجنسيّ. فالمسألة المطروحة عندهم دائما هي هذا الشّكّ في الفحولة. ولكي يصارع المتعصّب قلقه الذّاتيّ يتجنّب ما استطاع أن يتلذّذ. ومن يمنع نفسه من أن تتلذّذ لا يتحمّل منطقيّا أن يتلذّذ الآخر. وهكذا يصبح الهدف واضحا : إنّه قمع اللّذّة. ماذا ينجم عن هذا؟ رجال يشعرون بالذّنب وبالتّالي خاضعون، ولكن أيضا مجانين هائجون، قاتلون. من بين جميع الإيديولوجيات، الدّيانات هي الأسلحة الأكثر رعبا لأنّه بإمكانها أن تحوّل إنسانا مّا إلى مقاتل بل إلى انتحاريّ. لا يمكننا مع ذلك أن نستخلص من هذا أنّ الأديان خطيرة. ذلك أنّ الرّسالة السّماويّة مزدوجة، فهي في نفس الوقت حربيّة ومسالمة.
"من سكك محاريثكم، اصنعوا سيوفكم !" يقول النّبيّ يوئيل. ولكن في إشعياء كُتب أيضا "من سيوفكم، اصنعوا سكك المحاريث !". تقول التّوراة الشّيء ونقيضه. الأمر نفسه في القرآن. في السّورة الثّانية، الحرب الّتي تقتل جميع الخصوم مسموح بها عند مواجهة العدوان، أمّا في السّورة الثّامنة فلا بدّ من الكفّ عن الأعمال العدوانيّة إذا رغب العدوّ في ذلك.
بما أنّ النّصوص المقدّسة هي في الغالب تجميع للمأثور الشّفويّ موضوع من البداية إلى النّهاية، فإنّنا نجد فيها في نفس الوقت الحرب والسّلم. فإذا اعتبرنا الدّين خطرا فقط، نكون قد سقطنا في الأصوليّة الملحدة. إذن، أليس من حقّ الأديان أن تشوّه سمعة المذاهب الملحدة، عندما نرى الفظائع الّتي ارتكبها هتلر وستالين وماو ومؤخّرا بول بوت. لننظر بالأحرى مع أيّ رغبة يتوافق الرّبّ.
ربّ الأصوليين هو في نظرهم طاغية، دمويّ، مهووس بالانتقام، ساديّ. ولكنّ الخطر الحقيقيّ لا يأتي من الدّين، إنّه يكمن بالأحرى في علاقتنا برغباتنا الخاصّة. يتحوّل إلى أصوليّ كلّ من يرفض أن يواجه رغبته، من يرفض تحمّلها، من يسعى إلى مراقبتها بنفيها لا إلى التّحكّم فيها. الأصوليّ يؤلّه الزّعيم. فهذا الأخير هو الرّجل الّذي لا يخاف وبلا مذمّة، هو أب خياليّ مطلق المقدرة. لا يحتاج الأصوليّ ّإلى ربّ، ولكنّه يحتاج إلى زعيم في حالة انتصاب دائم. يرمز الدّكتاتوريون إلى القضيب الّذي يفتن. وحده الطّاغية قادر على الانفلات من سلطة الأنوثة سيّئة التّأثير، فتُعزى إليه رقابة مطلقة على نزعاته، وبالتّالي على رغباته. وباختيار الأصوليّ لزعيم مّا سيكون له من خلال الشّخص المتداخل معه انطباع بأنّ "له منه". تأليهه يهدّئ من قلق الخصي فيه. وهكذا، فإنّ الخوف من النّساء، المرتبط بحرمان جنسيّ شديد، ليس فقط علامة على مرض يسمّى الأصوليّة، بل هو أيضا حافزه اللاّواعي.
إنّ الأصوليّ لا يناقش لأنّه يمتلك سلاحا مطلقا : هو اليقين بأنّه على حقّ. الأصوليّ هو أوّلا رجل تُضخِّم معرفته المطلقة عُجبه بنفسه، إلى حدّ أنّه يعتبر فرض حقيقته على الجميع أمرا مشروعا، ولو بالقوّة. إنّه يدّعي امتلاك الحقيقة، وهذا الامتياز يجعله رجلا لا يُقهَر. وبما أنّه يمتلكها، بإمكانه استخدامها كسلاح خاصّة وأنّ هذه الحقيقة تتضمّن وعدا يهوديّا مسيحيّا يتعيّن عليه تحقيقه. إليه يعود أمر تحقيق الجنّة على الأرض ! حين تُدرَك الحقيقة هكذا تكون فريدة وثابتة. ولكنّ حضور الأنوثة بالذّات، لأنّها تجسّد الاختلاف، يدعو إلى الشّكّ في تحقيق استيهام مجتمع مثاليّ. هكذا يحدث الفرق بين أولئك الّذين يعتقدون أنّهم يعرفون وأولئك الّذين يسمحون لأنفسهم بالشّكّ. بين أولئك الّذين يخطبون وأولئك الّذين يتحاورون. بين منطق كليانيّ قائم على النّرجسيّة ومنطق ديمقراطيّ مبنيّ على الاعتراف بالغيريّة.
إنّ الأصوليين غير قادرين على التّحوّل من النّرجسيّة إلى الغيريّة وهم المهووسون والمشلولون بمحض رغبتهم.
بقلم: فرانسوا بارّو François Perrot
ترجمة : المنتصر الحملي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق