من ماكندو إلى العين السخنة، تاريخ من الحكم العسكرى ملئ بالمعاناة

نُشرت فى 21 فبراير 2012





ماكندو .. اسم مدينة كولومبية دارت فيها أحداث رواية "مئة عام من العزلة" للكاتب الكولومبي الكبير جابريال جارسيا ماركيز التى نُشرت عام 1967م و حصل ماركيز عن الرواية علي جائزة نوبل في الأدب عام 1982 …

و الواضح أن ماركيز قد استقي أحداث قصته من بلدته الأصلية حيث نشأ الآباء و الأجداد، و حكوا له ما حدث طوال مئة عام من تاريخ هذه المدينة الصغيرة.

و لعل من أبرز ما يلفت الانتباه في الرواية هو تلك الجريمة التي حدثت نتيجة الحكم العسكري الذي كان يُسيطر علي شئون البلاد في كولومبيا شأنها في ذلك شأن أغلب دول قارة أمريكا الجنوبية في القرن العشرين.

كانت ماكوندو قرية صغيرة و لكن تشاء إرادة الإله أن يحدث تغير في الطقس فتصبح ماكندو القرية الهادئة واحدة من أهم و أكبر مراكز زراعة الموز فاشتهرت باسم "مدينة الموز" .. و أتي المستثمرون من الولايات المتحدة الأمريكية لاستثمار أموالهم في ماكندو و أعطتهم حكومة المحافظين امتيازات كبيرة سيطروا بمقتضاها علي البلدة دونما أي نظرة لهؤلاء العمال البسطاء المُهدرة حقوقهم و ازداد المستثمرون غناً و ثراءً في نفس الوقت الذي تم فيه استغلال هؤلاء العمال بأجر زهيد لا يستطيعون به أن يعيشوا حياة نصف آدمية و لسنا نقول آدمية كاملة.

و ظل العمال يعملون منتهكة حقوقهم و مع كبر المدينة ازداد الوعي بقدوم بعض المفكرين و المدافعين عن حقوق الإنسان و آدميته .. و صحي العمال علي واقعهم المر و قرروا استعادة حقوقهم المسلوبة و بالفعل أعلنوا الإضراب عن العمل و خسر المستثمرون الملايين فهرولوا إلي حكومة المحافظين الذين سوفوا مطالب العمال و استجاب العمال لهم و فضوا إضرابهم مع وعود الحكومة القاطعة بالنظر إليهم و تحقيق كافة مطالبهم مع الوقت.

و عاد العمال للعمل و عادت جيوب المستثمرين تمتلئ بالملايين كل يوم و رغم ذلك ظل المستثمرون يسوفون مطالب العمال آملين أن تُنسي الأيام العمال حقوقهم المسلوبة و مطالبهم المشروعة في حياة كريمة حتي ضجر العمال بهم و أعلنوا الإضراب من جديد و انتشرت أخبار إضراب عمال مدينة الموز في كل ربوع كولومبيا و أعلنت الإذاعة الحكومية كما أعلنت الصحف الحكومية عن توجه القائد العسكري للمنطقة الواقعة فيها مدينة ماكندو للتفاوض مع العمال و انتظر العمال قدوم الحاكم العسكري.

 وصل الحاكم العسكرى إلى مدينة ماكندو و أمر بإعلان حظر التجوال فى المدينة ثم اتجه على الفور إلى أكبر ميادين ماكندو حيث يقبع أكثر من ثلاثة آلاف عامل مع عائلاتهم و اتجهت أعين الناس إلى الحاكم العسكرى الذي اعتلى ظهر إحدى مدرعات الجيش و قال بنبرة صارمة "عليكم بإخلاء الميدان فى خلال خمس دقائق من الآن و الاتجاه فوراً إلى أعمالكم و إلا سيحدث مالا يُحمد عُقباه". صُدم الناس مما قاله الحاكم العسكرى الذي تحدثت الإذاعات و الصحف الحكومية عن قدومه لحل المشكلة مع المستثمرين و الحفاظ على حقوق العمال.

 و بعد خمس دقائق بدأ ضرب النار و لم يكن يكفى سوى أن يمر عشر دقائق على ساعة الحاكم العسكرى حتى نرى ميداناً ممتلأً بجثث أكثر من ثلاثة آلاف من العمال مع زوجاتهم و أولادهم، عائلات كاملة تم القضاء عليها. و تم إحضار أحد قطارات نقل البضائع الذي كان يُستخدم فى نقل الموز و تم نقل القتلى من الميدان و اتجه القطار المحمل بالجثث إلى المحيط حيث تم إلقاءها هناك.

 لم ينجو من  هذه المجذرة سوى شخص واحد هو أركاديو الذي كشف بعذ ذلك النقاب عن هذه المجذرة.

 و لك أن تعرف أن حزب المحافظين الذي كان يحكم مع الجيش فى ذلك الوقت فى كولومبيا كان حزباً مدعوماً من الكنيسة و كان يمثل التيار الدينى المحافظ فى كولومبيا أمام حركة الأحرار التى قامت للمناداة بالحرية و العدالة و الكرامة و المساواة. و كانت هذه هى إحدى جرائم العسكريين بالإشتراك مع الأحزاب ذات الخلفية الدينية.

تشيلي إحدي دول أمريكا الجنوبية تعرضت هي أيضاً لإحدي أكثر المآسي في التاريخ الناتجة عن الحكم العسكري …

في الستينيات من القرن الماضي نشطت الحركة العمالية في تشيلي بسبب أوضاع العمال السيئة و زيادة نسب الفقر و البطالة. و الغريب في الأمر أن الحزب الحاكم كان الحزب المسيحي الديموقراطي و يبدو لنا أن الأحزاب الدينية كان لها دوراً سلبيا و اشتركت في بعض الأحيان في إنتاج معاناة الشعوب.

و في عام 1970 استطاع المرشح الاشتراكي سلفادور أليندي المدعوم من الفقراء و العمال الفوز بالانتخابات الرئاسية وسط حالة كبيرة من التفاؤل.

قامت الطبقة البرجوازية التي تمتلك رأس المال بسحب استثماراتها لإسقاط الإقتصاد رداً علي نجاح أليندي كما قامت بالتعاون مع المخابرات الأمريكية و مخابرات بعض الدول المحيطة بنشر الخلل الأمني و الفزع بين الناس.

و في عام 1973 قاد الجنرال بيونشيه إنقلاباً ضد الرئيس المنتخب أليندي بحجة اقرار الأمن في البلاد. قام الجنرال بيونشيه بقتل 30 ألف شخص خلال السنة الأولي من حكمه معظم هؤلاء كان من المناضليين الاشتراكيين و النقابيين كما قام باعتقال و اغتصاب الآلاف.

و ظل بيونشيه يحمي الطبقات الرأسمالية حتي عام 1990 حيث اضطر لتسليم السلطة لحكومة مدنية منتخبة من الشعب بعد احتجاجات عارمة عمت البلاد.

و تمت محاكمة الجنرال بيونشيه علي جرائمه وسط رفض دولي من أمريكا و حلفائها.

و في عام 2006 أصبحت الدكتورة ميشيل باشيليت رئيسة لجمهورية تشيلي و هي ابنة الجنرال باشيليت الذي عارض بيونشيه فكان نصيبه الاعتقال و القتل في سجون بيونشيه. و قد اعتقلت ميشيل في سجون الجنرال بيونشيه عام 1975 و تعرضت لشتي صنوف التعذيب و الاغتصاب.

و كان ذلك فصلاً آخراً من فصول الحكم العسكري في التاريخ العالمي.

أما على الجانب المحلى فى مصر فإن للعسكريين جرائم لا تغتفر، ففى شهر أغسطس عام 1952م بعد إنقلاب الظباط الأحرار قامت بعض الحركات العمالية بإضرابات فى المصانع من أجل تحسين ظروفهم المعيشية و كان أشهرهذه الحركات العمالية هى إضراب مصانع الغزل و النسيج بكفر الدوار، و قامت وحدة عسكرية بالتعامل مع العمال العزل من السلاح بمنتهى الوحشية و لم يستغرق الأمر سوى أقل من ساعة فتم اعتقال مئات العمال، و تشكلت المحكمة العسكرية برئاسة «عبدالمنعم أمين» أحد الضباط الأحرار ومن كوادر "الإخوان المسلمين" وأمام آلاف العمال وفي فناء المصنع، في بيت العمال، حيث شكلت المحكمة العسكرية واتهم مئات العمال بالقيام بأعمال التخريب والشغب وكان من ضمن المتهمين طفل عمره 11 عاما! وتم النطق بحكم الاعدام على العامل «محمد مصطفى خميس» ابن التسعة عشر ربيعا وتم النطق بذات الحكم على العامل « محمد عبد الرحمن البقري» صاحب السبعة عشر سنة. 

 و يبرز فى هذه الأزمة العمالية وقوف التيار الدينى المتمثل فى جماعة الإخوان المسلمين ضد حقوق العمال و إشتراكهم مع العسكريين ضد العمال و حقوقهم و تأييدهم لجرائم العسكريين.

و ظلت مصر حبيسة لهذا الحكم العسكرى طيلة ستون عاماً حتى قامت ثورة 25 يناير على يد الحركات الشبابية و اضطر الرئيس المخلوع إلى التنازل عن صلاحياته إلى المجلس العسكرى الذى واصل بدوره مسلسل و حلقة حكم العسكريين، فكان نتيجة لذلك ما حدث من الاعتقال و المحاكمة العسكرية لأكثر من 16 ألف مواطن مدنى أغلبهم من شباب الثورة،  سحل المتظاهرين فى يوم 9 أبريل، سحل أهالى الشهداء و المعتصمين فى شهر أغسطس بعد تباطؤ محاكمة المخلوع و عصابته و إخلاء سبيل بعض الظباط من قتلة الشهداء، مروراً بأحداث ماسبيرو فقامت مدرعات العسكريين بدهس ثلاثون متظاهر من المصريين الذين تظاهروا ضد التمييز الدينى،  أحداث شارع محمد محمود التى راح ضحيتها أكثر من خمسين شهيداً و آلاف الجرحى، أحداث مجلس الوزراء التى فقد فيها ما يقرب من عشرين شاباً حياتهم بعدما قرروا الاعتصام أمام مجلس الوزراء اعتراضاً منهم على إدارة العسكريين للبلاد و رفضهم للجنزورى المُعين من العسكريين لرئاسة الوزراء، و مجذرة بورسعيد التى ظهر فيها جلياً و بوضوح اشتراك العسكريبين فى مؤامرة الاخلال بالأمن حتى يلجأ إليهم الشعب أمام ضغط الانفلات الأمنى مضحياً بالحرية و الكرامة التى انتفض من أجلها فى أيام ثورة الخامس و العشرين من يناير 2011، و أخيراً و ليس آخراً ما حدث فى العين السخنة حيث أضرب مئات العاملين بالميناء احتجاجاً على أوضاعهم السيئة و هذه ليست المرة الأولى التي يُضرب فيها عمال الميناء فقد سبق لهم الإضراب العام الماضى و فضوا إضرابهم بعد وعود الحكومة المُعينة من العسكريين بتحقيق مطالبهم على أمل أن تُنسي الأيام العمال مطالبهم و حقوقهم المشروعة و لكن العمال عادوا بعد مرور عام للإضراب مرة أخرى بعدما أيقنوا أنا مطالبهم لا و لم و لن تتحقق إلا بالإضراب التام عن العمل و كعادة العسكريين دائماً فقد قاموا بالاستعانة بالقوة و قاموا بسحل و ضرب و اعتقال مئات العمال و تقديمهم للمحاكمة و أعلنت الصحف و الشاشات أن الأزمة قد تم تسويتها بين العمال و الشركة المسؤولة عن إدارة الميناء، ألا يُذكرك ذلك بما حدث فى مدينة الموز ماكندو ؟!

و الآن و قد أصبح أنه من الواضح لنا جميعاً خطورة حكم العسكريين و كيف أنهم يتحالفون مع التيارات و الأحزاب المحافظة المحسوبة على التيارات الدينية التى لا تعمل سوى لمصالحها الشخصية و قد ظهر هذا بوضوع فى أداء مجلس الشعب الذي سيطر على أغلب مقاعده حزبى الحرية و العدالة، و النور المحسوبين على جماعتى الإخوان المسلمين و السلفيين، و قد انكشف لنا كيف أن الجماعات الدينية المحافظة تتفاهم و تتفق مع العسكريين فى قمع الحريات، و سحل و قتل المتظاهرين.

و لكن على الرغم من القمع و السحل و القتل فإن الحق دائماً ينتصر فميشيل باشيليت التى عانت من الإغتصاب و التعذيب فى سجون بيونشيه عام 1975 عادت عام 2006 بعد حوالى ثلاثين عاماً لتصبح رئيسة تشيلى، فالأمل دائماً موجود بالشباب الذين يظلون دائماً مدافعين عن مواقفهم أمام الطغيان ثابتين على الحق مهما اشتد التعذيب و اشتدت المعاناه، فدائماً يخرج الإعجاز من رحم المعاناة.

ربما نحن نتأخر اليوم فى خطوة التخلص من الحكم العسكرى المتحالف مع التيارات الدينية المحافظة عن دول أخرى عديدة فى العالم سبقتنا فى هذه التجربة، و ربما لا يُدرك أغلب الشعب المصري اليوم خطورة ما يحدث من تحالف بين العسكريين و المحافظين بسبب عوامل كثيرة أهمها انتشار قلة الوعى و الفقر، لكنه سيأتى اليوم الذي سيعلم فيه بالتجربه و بالواقع خطورة ما حدث و ما يحدث و سينتفض للتغيير مرة أخرى، و أعتقد أن هذا اليوم سيكون أقرب مما يتخيل الكثيرون نظراً لتسارع الأحداث فى عصر الفيمتوثانية.

 

  بقلم دكتور أيمن
أرجو فى حالة نقل المقال ذكر اسم الكاتب و اسم المدونة مع وضع رابط للمقال بالمدونة حفظاً لحقوق الملكية الفكرية ،،،