د. أحمد زويل يكتب: إلى أين نحن ذاهبون؟
إلى أين تتجه مصر».. طرح علىّ سائق يدعى «محمد» هذا السؤال مؤخراً، ولا شك أن هذا هو السؤال الذى يدور فى نفوس الجميع، بعد أن فتحت الثورات الشعبية التى أوجدت الربيع العربى، باباً جديداً لانتخابات نزيهة هذا الخريف.
فى تلك اللحظة الفارقة فى التاريخ، فإن هناك تحديين رئيسيين يواجهان الأمة التى تحتل موقع القلب فى العالم العربى. الأول، هو كيفية تحفيز الانتقال الديمقراطى بشكل يضمن وحدة المصريين وتماسكهم كنسيج قوى، والتحدى الثانى مرتبط بالأول ويدور حول كيفية الوصول إلى سلام عادل فى المنطقة، وهو الأمر الذى يؤيده الرأى العام المصرى بشكل عام.
ومنذ الإطاحة بحسنى مبارك، قبل عدة أشهر، كان الطريق إلى الديمقراطية وعرا، إلا أن روح التفاؤل لاتزال طاغية، وأذكر هنا أن آلاف الأشخاص التفوا حول مبنى الجامعة الأمريكية فى ميدان التحرير ليشهدوا إعلان المشروع القومى للنهضة العلمية، وبناء المدينة الجديدة للعلوم والتكنولوجيا. فأخيرا شعر المصريون أنه سيكون بوسعهم أن يلتحقوا بالمستقبل الذى كان مغلقا فى وجوههم بسبب الديكتاتورية، وكان حديثى - الذى بثه التليفزيون على الملايين من المصريين - بهذه المناسبة تحت عنوان «مصر الأمل».
إلا أن التفاؤل اهتز قليلاً مع ما حدث فى شهر يوليو الماضى، عندما شهد العالم أكبر مظاهرة منذ الإطاحة بمبارك، حيث زحف الإسلاميون إلى ميدان التحرير وطالبوا بأن يتم حكم مصر بواسطة قوانين متشددة، ووجود الأعلام السعودية التى رفعها بعض المتظاهرين أثار مخاوف كبيرة، وعكست ذلك بعض العناوين الرئيسية فى الصحف فى اليوم التالى، وكان من بينها «بن لادن فى التحرير». بعدها وتحديدا فى «سبتمبر»، جاء الهجوم على السفارة الإسرائيلية فى القاهرة بعد مقتل ضباط مصريين على الحدود فى سيناء، ليتسبب فى إثارة الانتباه والانزعاج، خصوصا فى أمريكا، وفرض هذا الحدث نقاشات مطولة حول أمن إسرائيل ومستقبل السلام فى الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من تلك الأحداث، إلا أننى بقيت متفائلا بمستقبل مصر، حيث إن المصريين لم يعودوا خائفين من حكامهم، وأصبحوا يعرفون كيف يتظاهرون وهم مصممون على أن يغيروا الطريقة التى حكمت بها بلادهم عقوداً طويلة. ولكن علينا أن نتبع مبادئ قوية ومحددة تعينهم على التقدم نحو المستقبل.
أول هذه المبادئ هو أنه على المصريين أن يركزوا على الأهداف طويلة المدى، فمن غير المجدى أن يستمر الإعلام فى أساليبه الضحلة التى اعتاد عليها فى الماضى. والآن عليه أن يفتح نقاشا واسعا وبناء حول الأشياء الأساسية المتعلقة بمستقبل مصر مثل المبادئ الدستورية والعلاقة بين الدين والسلطة، وكيفية إعادة تشكيل النظام التعليمى وتحريك الاقتصاد الراكد، ودفعه للأمام.
ثانياً: سيكون من غير المنصف أن يتم إبعاد جميع الأشخاص الذين كانوا مرتبطين بالنظام السابق، حيث يجب النظر إليهم بوصفهم مواطنين، من الأفضل لهم ولنا إعادة توجيه طاقتهم والاستفادة من مواردهم بما يسمح ببناء مستقبل البلاد، فمصر لا تتحمل أن تستبعد جزءا حيويا من طاقتها الفكرية بسبب انتمائه للماضى، أو بسبب الصراع بين القادة السياسيين حول حجم القطعة، التى سيحصلون عليها من كعكة الثورة. حيث إن تأمين عملية الوصول إلى الديمقراطية يتطلب البعد عن الاستقطاب والتناحرالسياسى والأيديولوجى، التى ظهرت خلال الآونة الأخيرة، من أجل تحقيق الهدف الذى قامت الثورة من أجله وهو «إسقاط النظام».
وأخيراً، ولكنه المبدأ الأهم فإنه يجب على الجيش والحكومة أن يضعوا جدولاً واضحاً للأسابيع والشهور القادمة، لأنه لم يعد هناك فرصة لأحد لتبديد الوقت. فالمصريون مازالوا يكنون احتراما كبيرا للمؤسسة العسكرية، إلا أنهم قلقون لأن المجلس العسكرى لايزال الوحدة الأساسية والوحيدة التى تدير عملية الانتقال إلى الديمقراطية، وبقاء الوضع الراهن قد يذكر البعض بمخاوف تسبب فيها النظام السابق من أجل إحباط الطموحات الديمقراطية.
وأفضل علاج للشك هو الوضوح والاتصال من المجلس العسكرى ووضع جدول زمنى بالمواعيد المستقبلية مع تحديد جملة من الأشياء الأساسية مثل: قانون الطوارئ، وحق المصريين فى الخارج فى التصويت، ودور المحاكم العسكرية، ويجب أن يحدد المجلس أيضا كيف ومتى سيتم تسلم الحكومة الجديدة مقاليد الأمور؟، فالمظاهرات الضخمة لاتزال مستمرة فى التحرير ولكى تتقدم البلد للأمام لابد من الاستقرار والأمن.
وهناك وسيلة أخرى مقترحة لبناء الثقة بين الطرفين تتمثل فى إنشاء مجلس وطنى من الشخصيات البارزة يعمل كحلقة وصل بين المجتمع المدنى والمؤسسة العسكرية الحاكمة، فوجود «مائدة مستديرة» بين المجتمع المدنى والعسكريين فى بولندا ساعد البلد على الانتقال الديمقراطى مع نهاية الحرب الباردة.
ولاشك أن الارتباك والحيرة الحالية يهددان التطور الاقتصادى للثورة، كما أن التطور الديمقراطى للبلاد يعتمد كثيرا على تطورها الاقتصادى، لذا يجب أن يكون الانتقال الديمقراطى حقيقيا وبأسرع ما يمكن.
وسيكون من الخطأ القول بأن التوتر الحالى بين مصر وإسرائيل سيعنى نهاية معاهدة السلام بين البلدين، فخلال الثورة لم يكن هنا شعار واحد ضد السلام أو ضد إسرائيل فى ميدان التحرير، وقال السفير الإسرائيلى فى مصر إنه لم تتم معاملته بشكل سيئ قبل الأحداث الأخيرة، فما أثار غضب الشباب المصريين هو قتل الضباط والجنود المصريين فى سيناء، ووصف مسؤول إسرائيلى فى حكومة نتنياهو لمبارك بأنه «أفضل صديق لإسرائيل».
ومنذ اندلاع الثورة يشعر المصريون أنهم «نحن الشعب»، وليس الحكام من سيقرر كيف تكون العلاقة مع إسرائيل.
وبعد تونس ومصر وليبيا، فإن الشرق الأوسط كله يستيقظ، وروح الربيع العربى ستمتد إلى الفلسطينيين الذين سيطالبون بإنهاء الاحتلال، مثلما طالب المصريون بإنهاء الديكتاتورية. ولا يجب أن تقف القوى الكبرى فى مواجهة تيار التاريخ، وبدلا من ذلك فإن عليهم أن يلتزموا بإنهاء الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى بإقامة دولة جديدة على حدود 1967، واتباع مثل هذا المسلك يعد أفضل ما يمكن فعله للمجتمع الدولى، لأنه سيوجه طاقات العرب إلى بناء دولهم بدلا من التركيز على الصراع مع إسرائيل، ففى تلك اللحظة الدقيقة فإن كل من يستخدم الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى للحصول على مكاسب سياسية فإنه مدان بارتكاب جريمة ضد الأمل.
والأولوية الآن هى منع الآمال والطموحات التى ظهرت فى الربيع العربى من الخروج من سياقها بسبب التشتت وغياب الرأى الموحد أو بسبب التلاعب بالمشاعر المتأججة التى طالما ارتبطت بالقضية المركزية، وهى السلام فى الشرق الأوسط.
نقلاً عن جريدة «نيويورك تايمز»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق